تهتم المصادر التاريخية العربية- كثيراً- بتلك المعارك التي خاضتها الإمبراطورية الإسلامية، ونتج عنها ضم أمصار إلى أراضي الإمبراطورية. لكنها تغفل بصورة لافتة معركة ذات نتائج بالغة الأهمية، مثل معركة «نهر طلاس» التي درات بينها وبين الإمبراطورية الصينية، في عام 751م/ 133هـ، ربما لأنها لم توسع من رقعة الأراضي الإسلامية بشكل مباشر.
في منتصف القرن الثامن الميلادي كانت إمبراطوريات أربع تتقاسم القوة والنفوذ، وتفرض مجتمعة سيطرتها على الغالبية الكاسحة من مساحة العالم القديم. الإمبراطورية العباسية، الممتدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأجزاء من آسيا الوسطى. والإمبراطورية البيزنطية الممتدة من البلقان إلى آسيا الصغرى، وأجزاء من بلاد شرق البحر المتوسط. والإمبراطورية الكارولنجية، المسيطرة على وسط وغرب أوروبا. والإمبراطورية الصينية المسيطرة على مناطق واسعة من آسيا، منها الصين الحالية وشبه الجزيرة الكورية ومنغوليا وآسيا الوسطى وأجزاء من آسيا الصغرى.
لعقود كان الخصم الرئيسي للإمبراطورية الإسلامية، بداية من عصر الخلفاء الراشدين حتى الإمبراطورية العباسية، هي الإمبراطورية الرومانية الشرقية، المعروفة باسم الإمبراطورية البيزنطية، وتصارع الخصمان في معارك عسكرية كثيرة. فرضت الجغرافيا هذه الخصومة، ودفعت دفعاً إلى هذه الصدامات المسلحة، إذ كانت الساحات الرئيسية للصراع أرضاً تُشكل العمود الفقري لهاتين الإمبراطوريتين، خصوصاً بلاد الشام ومصر، كما كانت العواصم على مسافات ليست بالبعيدة. كل ذلك جعل من الإمبراطورية البيزنطية خصماً أول للإمبراطورية الأموية ومن بعدها العباسية.. لكن ماذا عن الإمبراطورية الصينية؟
قبل نحو قرن و15 سنة من اللحظة الزمنية التي نقف أمامها، صعد إلى سدة الحكم في الصين أسرة تانغ، على يد مؤسسها لي يوان الذي نصب نفسه إمبراطوراً للصين عام 618، وعلى يد ابنه تايزونغ استقر وقوي حكم أسرة تانغ، لتصبح الأقوى والأشهر في تاريخ الإمبراطورية الصينية، من خلال حكام التانغ، لما يزيد على ثلاثة قرون من الزمن، بعد أن ورثوا صيناً موحدة على يد سلالة سوي التي سبقتهم في الحكم.
وبحسب ما نشره موقع جامعة واشنطن حول سلالة تانغ، إلى أن العصر الذهبي للإمبراطورية الصينية كان في ظل حكم سلالة تانغ، وتدلل على ذلك ما شهده عصرهم في الصين من ازدهار غير مسبوق، إذ امتد نفوذها الثقافي والاقتصادي إلى أرجاء آسيا. وتميزت تشانغآن عاصمة الإمبراطورية بتنوعها الثقافي الفريد، إذ احتضنت آلاف التجار والحرفيين من مختلف أنحاء العالم، مما جعلها مركزاً تجارياً وثقافياً عالمياً. وعُرف عن الإمبراطورية الصينية وقتها التسامح الديني، إذ وجدت الديانات المختلفة مثل البوذية والزردشتية والإسلام والمسيحية، مكاناً لها، مما أسهم في إثراء الحضارة الصينية.
نتيجة تعارض المصالح وتصارع القوى نشبت مناوشات ومعارك متفرقة دارت بين الإمبراطورية الإسلامية، في نسختيها الأموية والعباسية، وبين الإمبراطورية الصينية، خصوصاً من أجل مد النفوذ على طريق التجارة، وتأمين الحدود.
يذكر كتاب «العلاقات العربية الصينية أيام أسرة تانغ»، للكاتب صادق جودة أن الصدام العسكري كان أقرب ما يكون في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، أيام ولاية قتيبة بن مسلم الباهلي على ولاية خراسان، الذي خاض عديداً من المعارك على الحدود الشرقية من أرض الخلافة العباسية المتاخمة للحدود الغربية للإمبراطورية الصينية، حتى وفاته عام 96 هجرية.
وصول الجيش الأموي إلى البوابة الغربية للإمبراطورية الصينية، في نهايات القرن الأول الهجري، جعل قائده قتيبة بن مسلم يمد بصره إلى عرش سلالة تانغ، وفي الوقت نفسه أثار القلق في نفس الإمبراطور الصيني مينغ هوانغ، وأرسل يطلب منهم مقابلة من يخبره تعاليم الدين الإسلامي وأتباعه، فذهب إليه وفد من 10 رجال، خاضوا لعدة أيام تفاوضاً معقداً- بحسب وصف الكتاب- انتهى بقبول الإمبراطور الصيني دفع الجزية إلى قائد الجيش الإسلامي الأموي، ليتجنب حرباً مع قوة عسكرية كبيرة، قد تقوض حكم أسرته إلى الأبد.
استغلت الإمبراطورية الصينية القلاقل الحادثة في الدولة الإسلامية في نهاية عصر الأمويين، وأرسلت عام 130 هجرية حملة عسكرية لاسترجاع عدد من المدن التي نجح قتيبة بن مسلم في ضمها للأراضي الأموية، ونجحت بالفعل في استرجاع مدن كش والطالقان وتوكماك، الواقعة حالياً في جمهورية أوزباكستان. غير أن وصول العباسيين إلى حكم المسلمين واستقرار الأوضاع السياسية والأمنية بنسبة معقولة، جعلهم يقررون الرد على ما قامت به الإمبراطورية الصينية، بشكل حاسم ونهائي، يرد للإمبراطورية الإسلامية هيبتها.
سبب آخر ربما أهم، جعل الصدام المسلح بين الإمبراطوريتين الكبيرتين وشيكاً، يتمثل في تعارض المصالح التجارية في ما بينهما، خصوصاً بعد وصول النفوذ الإسلامي إلى بلاد ما وراء النهر، وهي مناطق كان الحضور الصيني فيها قوياً، منذ القرن الثاني قبل الميلاد، لأنها تؤثر بشكل مباشر على طريق التجارة في العالم حينها، بخاصة تجارة الحرير، فوضع التوسع الإسلامي في تلك المناطق الإمبراطوريتين في مسار تصادمي حتمي، حاولا لسنوات تجنبه.
ولم تكن الحملة الصينية عام 130 هجرية ما استفز الخليفة العباسي أبا العباس عبد الله السفاح، لكنه اعتداء حاكم وادي فرغانة- تقع في أوزباكستان حالياً- التابع للصين على إقليم الشاش التابع للعباسيين، والقبض على حاكمه وإعدامه. رأى والي خراسان ورجل الدولة العباسية القوي أبومسلم الخراساني في ذلك أمراً لا يجب السكوت عليه، وبعد استشارة الخليفة العباسي جهز حملة عسكرية قادها زياد بن صالح الحارثي، واتجهت لتأديب حاكم فرغانة وهي على أتم استعداد لمواجهة محتملة مع الإمبراطورية الصينية التي دعمته في اعتدائه على إقليم الشاش.
في سطور قليلة يشير ابن الأثير في كتابه «الكامل في التاريخ» إلى معركة نهر طلاس، وإن كان يطلق عليها نهر طراز، قائلاً، «... وبلغ الخبر أبا مسلم فوجّه إلى حربهم زياد بن صالح، فالتقوا على نهر طراز، فظفر بهم المسلمون، وقتلوا منهم زهاء 50 ألفاً، وأسروا نحو 20 ألفاً، وهرب الباقون إلى الصين». بينما يشير الكاتب باري هوبرمان المختص في تاريخ آسيا الوسطى، في مقالته المنشورة في مجلة «السعودية أرامكو وورلد»، إلى تفاصيل أكثر دقة بشأن هذه المعركة الفاصلة.
بحسب المصدر السابق قام الصينيون بحشد 30 ألف رجل- بالتعاون مع قوات وادي فرغانة، كما ورد في الروايات الصينية، بينما تذكر المصادر العربية أن القوات الصينية وصلت إلى 100 ألف مقاتل. وفي يوليو 751 ميلادية، ذي الحجة 133 هجرية، واجهت جيوش الإمبراطورية العباسية القوات الصينية بالقرب من مدينة طلاس على نهر طلاس. ويرى باري هورمان على العكس من مصادر متعددة، أن مدينة طلاس التي دارت المعركة على أرضها ليست المدينة الحديثة التي تسمى طلاس في جمهورية قرغيزيا السوفيتية، ولكن طلاس القديمة كانت ربما أقرب إلى مدينة جامبول الحالية.
ينقل الذهبي في المجلد الثالث من كتابه الشهير «تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام» أن المعركة انتصر فيها الجيش العباسي بفضل البراعة الاستراتيجية لقائده زياد بن صالح، إذ قام بإعداد كمين من الخيالة، كان له دور حاسم في انتصار المسلمين. ولكن الصينيين يلقون باللوم على الأتراك القرلق، ويقولون إنهم تمردوا أو ثاروا ضد كاو سيان تشي. بعبارة أخرى، خانت قبائل الترك القرلق التحالف الصيني، وغيروا ولاءهم في وسط المعركة.
والأقرب إلى المنطق هو تحالف زياد بن صالح مع قبائل القارقول التركية قبيل المعركة، بسبب الخلافات الموجودة بينهم وبين الإمبراطورية الصينية، بعد رفض الصينيين إعطاء القرلق حكماً ذاتياً على مناطقهم الواقعة غرب الصين. لهذا رحبوا عندما عرض قائد الجيش العباسي عليهم الاشتراك في القتال ضد الصينيين نظير جزء من الغنائم، على أن يكون هجوم القبائل التركية من الخلف بعد نشوب القتال بالفعل، ليصنعوا مع الجيش الإسلامي كماشة تقضي على القوات الصينية.
وأياً ما كان الخلاف بين المصادر حول عدد القوات الصينية في معركة نهر طلاس، 100 ألف أو 30 ألفاً، فإنها تتفق على أن الغالبية العظمى من هذا الجيش سقط بين قتيل وجريح وأسير، ولم يعد إلى الأراضي الصينية سوى ما يقل عن الربع، وترتب على النصر العسكري الكبير انتهاء التنافس على زعامة هذه منطقة من العالم، بين العباسيين والصينيين، بجانب نتائج أخرى أهم وأكبر أثراً.
لا توجد أدنى مبالغة إذا قلنا إن معركة نهر طلاس، والنهاية التي آلت إليها، غيرت وجه العالم القديم عما كان قبل وقوعها؛ فقد انتهى النفوذ الصيني على وسط آسيا من حينها وربما إلى الآن، مما ترتب عليه تراجع التجارة عبر طريق الحرير بدرجة كبيرة، وبالتالي لم يعد للإمبراطورية الصينية وجود بأي شكل في دول وسط آسيا، من الناحية الثقافية أو العسكرية. وترى عديد من المصادر التاريخية أن «نهر طلاس» كانت السبب الذي أدى لاحقاً إلى تمرد القائد العسكري الصيني لوشان عام 755م، وما تبعه من اضطرابات في أرجاء الإمبراطورية الصينية.
على الجانب الآخر، فإن انتصار الجيش العباسي في معركة نهر طلاس مهد الطريق أمام اتساع رقعة الإمبراطورية الإسلامية، في هذه النقطة الحيوية من العالم القديم، ودخول شعوب وسط آسيا تباعاً في الدين الإسلامي، فضلاً عن تعزيز العلاقات بين العرب الأتراك، بما يعتبر بداية ظهورهم في المشهد الرئيسي للسياسة في الدولة الإسلامية لقرون طويلة.
وهنا يجب التطرق إلى أن أحد أهم موارد الإمبراطورية الصينية في ذلك الزمن كانت أرباحها من بيع الورق إلى الدول الأخرى، وكانت الصين تحتكر هذه الصناعة المهمة بصورة كاملة، وتعتبرها من أهم أسرار الدولة العليا، وفي خارج حدودها كان البردي والرق هما الأكثر استخداماً للتدوين عليهما، بخاصة في الدولة العباسية، وفي أغلب الظن كانت باقي دول العالم على نفس الحال. لكن مع وقوع عدد من صُناع الورق الصينيين في الأسر، خلال معركة «نهر طلاس»، تم إنشاء أول معمل لتصنيع الورق خارج الصين، في مدينة سمرقند، وبعدها انتقلت صناعة الورق إلى خراسان والعراق والشام، ثم تأسس أول مصنع للورق في بغداد سنة 794م، ليعرف بعدها العالم كله هذه الصناعة التي -بكل تأكيد- كان لها بالغ الأثر على وجه الحضارة البشرية، لتصبح معركة نهر طلاس ليست مجرد صراع عسكري، بل كانت نقطة تحول في تاريخ الحضارات، حيث شكلت مسار العالم لقرون مقبلة.